الاستشراق
في تعريفه العامّ هو دراسات أكاديمية يقوم بها غربيون للشرق بشتى جوانبه:
تاريخه وثقافته, ودينه ولغته, ونظمه الاجتماعية والسياسية وثرواته
وإمكاناته من منطلق التفوق العنصري والثقافي على المشرق وبهدف السيطرة
عليه لمصلحة الغرب وتبرير هذه السيطرة بدراسات وبحوث ونظريات تتظاهر
بالعملية والموضوعية بينما يرى "إدوارد سعيد" وهو من أكثر من كتب عن
الاستشراق وأثار جدلاً كبيرًا في الأوساط العملية في عالمنا العربي
الإسلامي، وكذلك في الغرب– يرى أن الاستشراق أسلوب غربي للهيمنة على الشرق
وإعادة صياغته وتشكيلة فكرياً وسياسيًا وممارسة السلطة عليه، ولكننا نرى
أن الاستشراق وإن كان في ظاهره دراسات أكاديمية يقوم بها غربيون للإسلام
والمسلمين من شتى الجوانب عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة وتاريخًا ونظمًا
وثروات وإمكانات إلا أنه يهدف في أحد أهدافه الرئيسية تشويه الإسلام،
ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم
ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعى العملية والموضوعية،
وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب على الشرق الإسلامي.
ومن ثم كانت
أهمية الاطلاع على تلك الدراسات التي يقوم بها المستشرقون ورصدها لبيان
الجوانب الإيجابية في تلك الدراسات وأيضًا التنبيه والردّ على الجوانب
السلبية، وحسنًا فعلت مكتبة الأسرة في القاهرة بإعادة طبع كتاب «الفكر
العربي ومكانه في التاريخ» لمؤلفه "ديلاس أوليري" والذي قام بنقلة إلى
العربية الدكتور تمام حسان، وراجعه الدكتور محمد مصطفى حلمي..
ويرى
المترجم الدكتور تمام حسان أن مؤلف الكتاب "ديلاس أوليرى" استعمل كلمة
Arabic دون Arab لأنه يقصد أن الفكر العربي الذي جعله للكتاب لم يكن
إنتاجا عربيًا خالصًا، ولكنه كان فكرًا باللغة العربية قام به قلة من
العرب وكثرة من غيرهم ولا تقتصر هذه الدعوى منه على أن تكون إشارة في
عنوان الكتاب وإنّما تصبح بعد ذلك تصريحًا في صلب الكتاب.
وجاء الكتاب
في عدة فصول تناول المؤلف فيها الصورة السريانية للهليغية فتكلم عن
النساطرة واليعاقبة والزرادشتيين والوثنين الحرانيين، وكذلك اليهود حيث
يبين المؤلف أن المجتمعات النصرانية التي كانت تتكلم السريانية كانت لها
أهمية كبيرة في نقل الفلسفة والعلم الإغريقي إلى العالم العربي.
ثم
تحدث عن العهد العربي وحاول رسم صورة لكيفية بدء انتشار الفكر العربي
وظهور مدارس فكرية عربية، فمع العصر الأموي بدأ المسلمون يدرسون الفقه
دراسة علمية وظهور نهضة علمية في مجال الصناعات والهندسة والبناء والطب،
وكذلك الفلسفة وظهور بعض القضايا العقدية التي كانت تتبناها الدولة وتبرير
فرضها على المسلمين كمسألة "خلق القرآن" والتي ابتلي فيها كثير من أئمة
المسلمين، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل ثم تحدث باستفاضة في فصل خاصّ
عن مجيء العباسيين الذين قاموا بنهضة علمية شاملة وأعادوا تنظيم الدولة
على النمط الفارسي.
كما خصّ المترجمين بفصل في كتابه وبين أهمية
الترجمة ابتداء بابن المقفع والنسطوري جورجيس بن بختيشوع، وتحدث عن بيت
الحكمة الذي أنشاة المأمون، ويعدّ القرن الرابع الهجري العصر الذهبي
للمترجمين العرب وتحدث عن ثابت بن قرّة وجابر بن حيان.
كما تحدث عن
المعتزلة وفلاسفة المشرق والتصوف، ثم تكلم عن فلاسفة المغرب وخصّ ابن رشد
بحديث مسهب حيث يعدّه الغربيون أعظم الفلاسفة العرب وآخرهم تقريبًا..
والكتاب
فيه الكثير من المعلومات التي يجب أن نوليها الاهتمام؛ لأن مؤلف الكتاب
"ديلاسي أوليري" يعدّ من غلاه المستشرقين الذين يتلمسون في ثقافة العرب ما
يرجون أن يردوه لأدنى شبه إلى ثقافة الإغريق أو الرومان؛ فالفقه الإسلامي-
في رأيه- مأخوذ عن القانون الروماني؛ لأن العرب وجدوا في الأقاليم
المفتوحة أوضاعًا فقهيه أقروها كما أن الفلسفة الإسلامية في نظرة طور من
أطوار الفلسفة الهلينية؛ لأن العرب بحثوا المشاكل الفلسفية التي بحثها
الفلاسفة الهلينيون والتصوف الإسلامي ذو روافد من الأفلاطونية الحديثة؛
لأنه اتفق معها في بعض الآراء، بل يذهب هذا المستشرق الذي أعماه الحقد
والتعصب إلى أن العقيدة الإسلامية نفسها تشتمل على عناصر هلينية؛ لأنها
ارتضت بعض ما ارتضته النصرانية أو الفلسفة الهلينية؛ لأنها ارتضت بعض ما
ارتضته المسيحية أو الفلسفة الهليبنية ويغفل المؤلف أن الإسلامي مصدره
القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأن العقيدة الإسلامية قد بلغها
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يتل قبلَ القرآن من كتاب
ولاحظه بيمينه، نسى ذلك المؤلف أو بالأحرى تناساه ليعلي من شأن الإغريق
الأوربيين أبناء قارته وبني عمومته وأسلافه الفكريين، وليحطّ من شأن
المسلمين لدوافع عنصرية أو دينية أو كلاهما معًا..
علاوة على ذلك نجد
أن الكتاب ينصف الفكر العربي، حيث لا يستطيع إلا إنصافه حين يشرع المؤلف
الطريقة التي وصلت بها أفكار العرب إلى أوربا الحديثة هذا الكتاب وأمثاله
لا يجب ترجمته فقط، بل يجب ترجمته والردّ على ما فيه من طعن في ثقافتنا
وفكرنا ورده إلى الأصول، فموقف المستشرقين يمثل عداوة عقائدية من أشدّ
العداوات وأخبثها في تاريخ الإسلام، ولسنا نطالب المستشرقين أن يكونوا
مسلمين قبل أن يدرسوا الإسلام ولكنا نطالبهم بأن يكونوا موضوعيين وصادقين
وأن يلتزموا بالأمانة العلمية في دراستهم للإسلام ولا يسعنا في النهاية
إلا أن ننبه المسلمين أن يستيقظوا وأن يصحو من غفلتهم وينتبهوا إلى خطورة
الاستشراق ويحذروا عداوة المستشرقين ويتيقنوا أن معظمهم ليس بمنصف فهم
جميعا ملة واحدة ...